(1)
أدري أن طرح السؤال في الأجواء المصرية الراهنة يبدو تغريدا خارج السرب وسباحة ضد التيار. كما أن توقيته تأخر كثيرا، الأمر الذي يعيد إلى أذهاننا نموذج الرجل الذي يضرب به المثل، حين خرج لأداء فريضة الحج في حين كان الناس في طريق عودتهم منه.
ذلك أن التشخيص تم، والقرارات صدرت، والتنفيذ جار على قدم وساق. كما أعلن على الملأ أن مصر في حالة حرب استهدفت تهديد أمنها القومي وإسقاط الدولة، الأمر الذي يعني أنها باتت تخوض معركة وجود.
وبعدما أطلق النفير جرى تعبئة الرأي العام لصالح خوض تلك الحرب المصيرية بجرعات عالية من الاستنفار استخدمت فيها الخطب السياسية والمزايدات الإعلامية والأناشيد الوطنية والفتاوى الدينية.
وفي هذه الأجواء تقرر أن يدفع أهالي سيناء الثمن وقدم سكان رفح المصرية قربانا للدفاع عن أمن مصر المهدد، وتسابقت وسائل الإعلام في امتداح أهالي سيناء الذين امتثلوا وقبلوا بالتضحية من أجل مصر، خصوصا بعدما قيل إن تهجير 15 ألف شخص من ديارهم يعد ثمنا متواضعا لتأمين 90 مليون مواطن مصري. أما الذين ترددوا أو تململوا فقد وجهوا بضرورة حسم موقفهم. فإما أن يكونوا مع التهجير وإما مع الإرهاب الذي يهدد أمن مصر.
تلاحقت تلك المشاهد بسرعة خلال الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، في أعقاب الهجوم الإجرامي الذى قام به الإرهابيون على قوة الجيش المرابطة في كمين كرم القواديس وأدى إلى قتل وإصابة 60 جنديا وضابطا، الأمر الذي صدم المجتمع المصري ودفع القيادة السياسية والقيادة العسكرية لاتخاذ مجموعة من الإجراءات لوضع حد لتلك الجرائم التي استهدفت الجيش والشرطة وأمن مصر القومي.
وكان من بين تلك الإجراءات إعلان الطوارئ في سيناء وإخلاء الشريط الحدودي الذي يفصل بين مصر وقطاع غزة من السكان لوقف تسلل الإرهابيين من وإلى القطاع.
وإذ نفذت تلك القرارات على الفور فإن سكان رفح المصرية الذين يعيشون في المنطقة تلقوا إخطارا بإخلاء بيوتهم خلال 48 ساعة تمهيدا لتطهير المنطقة التي تمتد بطول نحو 14 كيلومترا (أقيم عليها 800 بيت عاشت فيها 1165 أسرة) وبسبب الطوارئ المفروضة وانقطاع الاتصال فإننا لم نسمع صوت أهالي المنطقة (أمس، بعد أسبوع من صدور القرارات وبدء تنفيذها أعلن أن وفدا رئاسيا سيزور رفح للاجتماع بشيوخ القبائل والاستماع إلى ملاحظاتهم).
وباستثناء التقارير القصيرة التي نشرتها بعض الصحف لمراسليها في العريش، والتي تحدثت عن معاناة المهجرين، فإننا لم نتابع الحدث إلا من خلال الصور التي وزعتها القوات المسلحة لحملة الإخلاء، والتي سجلت عمليات هدم البنايات وإخلاء السكان لبيوتهم بأثاثها ونوافذها وأبوابها، وفي كل الأحوال فإن علاقة الرأي العام بعملية التهجير ظلت محكومة بحدود الرؤية الرسمية. بمعنى أنها بقيت تدور في فلك أصداء القرارات التي صدرت وإجراءات تنفيذها على أرض الواقع.
من ثم انطلقت رؤية المجتمع من التسليم سواء بالتشخيص الذي أعلنته الجهات المعنية بمشكلة الإرهاب في سيناء، أو بالحلول التي طرحت للتصدي لخطر المشكلة وتحديد مصادرها.
(2)
رغم أننا لم نتابع ما جرى في سيناء قبل التهجير وأثناءه إلا من زاوية محدودة للغاية ومحكومة بالرؤية الرسمية التي فرضتها الاعتبارات الأمنية، فإننا لا نستطيع أن ننكر أن المجتمع كان مهيأ لاستقبالها ومرحبا بها. ذلك أن الضمير الوطني كان ولا يزال مستفزا للغاية ضد الجماعات الإرهابية التي استهدفت قوات الجيش والشرطة. ولم يكن مستعدا لأن ينسى أو يغفر لتلك الجماعات قتلها للعشرات من أولئك الجنود الأبرياء، ومن ثم كان الرأي العام مستعدا للقبول بأي إجراء يتخذ للقضاء على تلك الجماعات.
صحيح أن قطاعا من الرأي العام كان مرحبا بالعمليات التي قام بها تنظيم أنصار بيت المقدس حين قام بتدمير أنبوب الغاز الموصل لإسرائيل أكثر من عشرين مرة، إلا أن ذلك الترحيب انقلب إلى نقيضه بنسبة مائة في المائة حين حولت عناصر التنظيم نشاطها بحيث أوقفت عملياتها ضد إسرائيل واتجهت للاشتباك مع الجيش والشرطة المصرية في داخل سيناء وخارجها.
وحين تعددت المجموعات المسلحة وظهرت إلى جانب أنصار بيت المقدس تنظيمات أخرى مثل شورى المجاهدين وجيش الإسلام وأكناف بيت المقدس، فإن سيناء ارتبطت في الإدراك العام بكونها موئلا للإرهابيين الذين تعددت مصادر تسليحهم، من ليبيا تارة ومن السودان تارة أخرى. ولم أقتنع بدور غزة في هذا الجانب، لأنها كانت طول الوقت بحاجة لاستقدام السلاح وليس إلى تصديره. وذلك لا يتعارض مع دور الأنفاق في دخول الأفراد وخروجهم أو في إدخال البضائع إلى القطاع.
الشاهد أن الرأي العام المصري تعامل مع القرارات التي اتخذت لتطهير سيناء من الإرهابيين والإحالات التي تضمنتها باعتبارها مسلمات مستقرة لا سبيل إلى مناقشتها أو مراجعتها، إلا أن البيانات والتقارير التي صدرت من خارج الحدود المصرية تفتح الباب لتلك المراجعة، وسأضرب مثلا بشهادتين في هذا الصدد، إحداهما من غزة والثانية من إسرائيل.
(3)
إذ منذ أعلن رسميا في مصر أن "عملية الشيخ زويد الإرهابية نفذت بدعم خارجي" فإن الأنظار اتجهت مباشرة إلى قطاع غزة، ثم إلى حركة حماس المصنفة مصريا ضمن القائمة السوداء بسبب ارتباطها التاريخي بحركة الإخوان المسلمين. ورغم أن الاتهام لم يوجه إلى حماس بصورة رسمية، فإن وسائل الإعلام استخدمت لتثبيت تلك التهمة. وانتهى الأمر ليس فقط بتعميم الاتهام وإنما أيضا بنشر أسماء لأشخاص ذكرت المصادر "السيادية" أنهم ضالعون في الجريمة.
إزاء ذلك أصدرت وزارة الداخلية في القطاع بيانا في 31/10 فند تلك القائمة على النحو التالي: إذ ذكر أن ستة أشخاص من الذين وردت أسماؤهم في القائمة لا وجود لهم إطلاقا في السجل المدني الفلسطيني -إلى جانب ذلك فقد تضمنت القائمة أسماء خمسة أشخاص يعيشون في الضفة الغربية وبينهم طفل عمره 15 عاما اسمه عطا الله القرم. وهؤلاء أسماؤهم متكررة بين سكان الضفة ولم يثبت أنهم دخلوا إلى غزة في أي وقت- تضمنت القائمة اسمين لاثنين من القياديين في كتائب عز الدين القسام الذراع العسكرية لحركة حماس، هما محمد أبو شمالة ورائد العطار. والاثنان استشهدا أثناء العدوان الإسرائيلي على غزة في شهر يوليو/تموز الماضي أي قبل نحو أربعة أشهر من العملية الإرهابية.
رغم أهمية هذا البيان، فلست أدعو إلى التسليم به. إلا أنه لابد أن يثير انتباهنا إلى أن الأمر لم يخضع للتحقيق والتحري من جانب السلطات الأمنية المصرية، إذ في ظل حكومة الوفاق التي خرجت منها حماس فلست أظن أن الرئيس محمود عباس يمكن أن يمانع في استقبال لجنة تحقيق مصرية تتوجه إلى الضفة وغزة للتحري عن أولئك الأشخاص وتتبع خيوط العملية.
وغني عن البيان أن حماس إذا لم تقبل بذلك في القطاع فإن موقفها سيكون قرينة مهمة تؤكد ضلوعها في العملية. وأذكر في هذا الصدد أن الدكتور موسى أبو مرزوق نائب رئيس المكتب السياسي لحماس أعلن أكثر من مرة استعداد الحركة للتعاون مع السلطات المصرية في التحقيقات التي تجرى بخصوص العمليات الإرهابية التي تشهدها سيناء، بما في ذلك العملية الأخيرة التي وقعت يوم 24 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
هذه الخلفية تدعونا إلى التساؤل عن السبب في عدم مواجهة الطرف الفلسطيني بالاتهامات والشبهات المثارة حول دور غزة في سيناء، وهي إذا لم تكن كافية لتبرئة ساحة حماس، فهي على الأقل تدعونا إلى إعادة التفكير في ذلك الدور، وعدم التعامل معه باعتباره أمرا مفروغا منه ومسلما به.
(4)
الشهادة الإسرائيلية أوردها موقع صحيفة يديعوت أحرونوت يوم 30/10. وأهميتها تكمن في المعلومات المثيرة التي أوردتها، وفي أن مصدرها هو كبير المعلقين العسكريين بالصحيفة رون بن يشاي المعروف بصلاته الوثيقة بالمؤسسة الأمنية الإسرائيلية. في شهادته ذكر بن يشاي ما يلي:
- إن النظام المصري يبالغ في ادعائه أن عناصر من غزة على علاقة بالهجمات التي استهدفت الجنود المصريين مؤخرا. وإن الأوساط الأمنية الإسرائيلية تقدر عدد عناصر أنصار بيت المقدس بما لا يتجاوز ألفي شخص. وهي في ذلك تشدد على أنهم جميعا من الشبان المصريين.
- إن جهاز المخابرات الداخلية (الشاباك) وشعبة الاستخبارات العسكرية (أمان) يتوليان مهمة جمع المعلومات الاستخبارية عن تحركات "الجهاديين" في سيناء. وهذه المعلومات تنقل إلى الجانب المصري الذي يستفيد منها في حربه الفعلية ضد تلك الجماعات، وفي بعض الأحيان لا يتردد الجيش الإسرائيلي في العمل بنفسه داخل سيناء، لا سيما حين يتعلق الأمر بإحباط عمليات تخطط لها الجماعات الجهادية، أو عندما يتم الرد على عمليات إطلاق النار.
- إن تل أبيب تقدر الخطوات التي يقوم بها الجيش المصري في شمال سيناء، لا سيما تدمير المنازل المقامة بالقرب من الشريط الحدودي مع قطاع غزة. وهي الخطوة التي لم يجرؤ الجيش الإسرائيلي على اتخاذها خلال حوالي أربعة عقود من احتلاله المباشر للقطاع.
- إن الحرب التي تشنها السلطات المصرية ضد تنظيم أنصار بيت المقدس تخدم إسرائيل بشكل كبير، لأن ذلك التنظيم يمثل تهديدا لأمن إسرائيل في المدى البعيد، رغم اشتباكه في الوقت الراهن مع الجيش المصري.
- إن عمليات تهريب السلاح إلى غزة تراجعت إلى حد كبير، ليس فقط بسبب الجهود المصرية التي أدت إلى تدمير الأنفاق، وإنما أيضا بسبب الجهود التي بذلتها القيادة السعودية في الضغط على الرئيس السوداني عمر البشير، وهي التي أقنعته بوقف وصول السلاح الإيراني للسودان الذي يتم تهريبه بعد ذلك إلى غزة عبر مصر وسيناء. (نقلت الإذاعة العبرية صباح يوم 3/11 عن مصدر إسرائيلي بارز قوله إن جهود السعودية لعبت دورا أساسيا في تقليص تهريب السلاح للمقاومة في القطاع).
- إن إسرائيل تساعد مصر في الحرب ضد الجماعات الإسلامية من زاوية أخرى إضافية، ذلك أنها تسمح للجانب المصري بالاحتفاظ بقوات كبيرة في سيناء أكبر بكثير مما يسمح به الملحق الأمني في اتفاقية "كامب ديفد".
أيضا لا أدعو إلى التسليم بهذه المعلومات، لكنني أزعم أنها تساعدنا على التفكير مرة أخرى في مسلمات المشهد الذي انتهى بقرار إخلاء 14 كيلومترا من السكان والعمران، وهي المنطقة المجاورة لقطاع غزة باعتبارها منطقة خطرة. أما الشريط الحدودي مع إسرائيل الذي يمتد بطول 184 كيلومترا فقد اعتبر منطقة مؤمنة ولا قلق منها.
إنني أخشى أن نبذل كل ذلك الجهد الذي نراه ونسمع به، ثم نكتشف في النهاية أن ما فعلناه لم يوف شهداءنا حقهم، ولم يستأصل الإرهاب كما نصبو، وأنه حقق للأمن الإقليمي أكثر مما حقق للأمن القومي.
المصدر : الجزيرة
في الأربعاء 05 نوفمبر-تشرين الثاني 2014 01:21:29 ص