فبينما تعتبر نفسها الطرف الأكثر تضررا من برامج إيران التسليحية والصاروخية الطموحة وتطلعاتها النووية المثيرة لم تدخر إسرائيل وسعا لتحري كافة السبل الكفيلة بإجهاض تلك البرامج والطموحات، وإن اضطرت لتقويض أي مساع دولية لتوقيع أي اتفاق نووي بين إيران والدول الست لا يلبي بدوره مطالب تل أبيب أو يراعي اعتبارات الأمن القومي الإسرائيلي.
وبناء عليه، بدا جليا ذلك التباين الواضح في غايات كل من إسرائيل والمجتمع الدولي بشأن الموقف من برنامج إيران النووي ومصير المفاوضات التي تجري بهذا الصدد.
فمن جانبه لا يريد المجتمع الدولي أن تزج به أزمة الثقة المتأججة مع إيران وبرنامجها النووي إلى التيه في غياهب جدل عقيم وغير قانوني حول حرمان طهران من امتلاك برنامج نووي سلمي بموجب الحق الذي كفلته لها اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية لعام 1968 التي تعد الركيزة الأساسية لنظام منع الانتشار النووي والتي لا تزال إيران عضوة فيها، بقدر ما ينشد نزع فتيل الأزمة النووية الإيرانية عبر اتفاق ينطوي على ضمانات من شأنها أن تحول دون تحول مثل هذا البرنامج النووي المدني إلى آخر عسكري ينتج السلاح النووي ويؤجج سباق تسلح نووي محموم في المنطقة.
وبهذا الخصوص، أكدت روسيا على أهمية إبرام اتفاق "يستند إلى موازنة المصالح" بين الجانبين.
أما إسرائيل فتصر -من جانبها- على تجميد هذا البرنامج نهائيا مخافة أن تستغل طهران تلك المفاوضات وما قد يتمخض عنها من اتفاقات، بغرض توفير غطاء سياسي وقانوني لاستئناف برنامجها النووي وصولا إلى مباغتة العالم بإنتاجها القنبلة النووية.
وتأسيسا على ذلك، لا تبدي إسرائيل نية للتنازل عن مقصد تقويض هذا البرنامج كلية وليس تقليصه أو منعه من تخصيب اليورانيوم وإعادة معالجته، بما يحول دون امتلاك طهران قدرات مادية وتقنية تخولها إنتاج سلاح نووي في أي وقت. ومن ثم، تطالب إسرائيل الغرب ودول (خمسة+واحد) باستنساخ الاتفاق الذي توصل العالم إليه مع ليبيا من قبل عام 2003، والذي تم بموجبه تصفية البرنامج النووي الليبي نهائيا وبالكامل، وتطبيقه في الحالة الإيرانية هذه الأيام.
وترى تل أبيب في عدم التوصل لاتفاق بين الدول الست وإيران بشأن البرنامج النووي للأخيرة بحلول 24 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، والتوافق بدلا من ذلك بشأن تمديد المفاوضات لعدة أشهر إضافية رغم الصعوبات السياسية التي تكتنف هذا الأمر "نتيجة كارثية" بالنسبة لها، على اعتبار أن ذلك سيعطي إشارات بأن القوى العظمى مستعدة للتعاطي بإيجابية مع ما يعتبره الإسرائيليون "حيلا إيرانية" للمماطلة وكسب الوقت.
لذا لا تريد إسرائيل أن يتوصل المجتمع الدولي إلى اتفاق جديد مع طهران لا يقضي بشكل نهائي على برنامجها النووي وطموحاتها الإستراتيجية، حيث ترى أن أي اتفاق لا يحقق تلك الغاية إنما يتيح لطهران التخلص من العقوبات بغير مقابل، فضلا عن كسب الوقت والتحايل من أجل إنتاج القنبلة النووية ووضع المجتمع الدولي أمام الأمر الواقع.
في غضون ذلك، لم تكف واشنطن عن إرسال التطمينات لتل أبيب من قبل الرئيس أوباما ووزير خارجيته جون كيري اللذين اتصلا برئيس الوزراء الإسرائيلي وأطلعاه على مسار المفاوضات، وأكدا على التزام واشنطن بعدم التوصل لاتفاق يمكن أن يهدد أمن إسرائيل.
هذا علاوة على تأكيدات أميركية سابقة بأن الخيار العسكري ضد إيران لم يستبعد كلية من قائمة الخيارات الأميركية المقترحة للتعاطي مع الأزمة النووية الإيرانية، خصوصا إذا ما لم تؤت الخيارات السياسية والاقتصادية الأخرى أكلها.
وهي التطمينات التي واكبتها خطوات إيرانية للوراء على طريق بناء الثقة وتضييق الفجوة، ترى طهران وحلفاؤها أنها لا بأس بها، من قبيل موافقة طهران على إحداث تغييرات تقنية في مفاعل أراك للمياه الثقيلة من أجل تقليص قدرته على إنتاج البلوتونيوم، علاوة على الالتزام بعدم بناء منشأة جديدة لتحويل البلوتونيوم إلى سلاح نووي.
وبعدما أثير خلال المفاوضات موضوع موقع "مريوان" النووي الذي يشتبه بقيام إيران بإجراء تفجيرات اختبارية هناك، أعلن الناطق باسم الوكالة الإيرانية للطاقة الذرية بهروز كمالوندي أن طهران مستعدة للسماح لمفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية بزيارة الموقع.
ورغم أن الإيرانيين رفضوا إغلاق منشأة تخصيب اليورانيوم تحت الأرض في بوردو فإنهم تعهدوا لممثلي القوى العظمى بتحويلها إلى منشأة بحثية، بحيث تكون تحت رقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
وفيما أكدت دوائر استخباراتية إسرائيلية أن لدى الإيرانيين ثمانية أطنان من اليورانيوم المخصب بنسبة 5% فقد أبدى الغرب استعداده لئلا يبقي في يد الإيرانيين سوى كمية رمزية منه لا تتجاوز 350 كيلوغراما، بحيث لا تكفي لصناعة قنبلة نووية.
ويقترح ممثلو الدول الغربية أن يتم نقل ما تبقى من يورانيوم إلى روسيا، لتحويله إلى وقود نووي يستخدم في محطة توليد الطاقة النووية في محطة "بوشهر"، وهو العرض الذي ألمح مسؤولون أميركيون إلى إمكانية قبول الإيرانيين به.
ورغم ذلك كله لم تتورع تل أبيب -التي ترى أنه باستثناء اللهجة اللينة والابتسامة العريضة لا يوجد ثمة فارق بين روحاني وسلفه أحمدي نجاد بشأن المفاوضات النووية- عن التلويح بمخاوفها من تهاون إدارة أوباما مع طموحات طهران النووية إلى الحد الذي يتيح للإيرانيين امتلاك السلاح النووي بغية توظيف واشنطن لإيران النووية ضمن الإستراتيجية الأميركية في المنطقة، أو جنوح القوى العظمى للتسليم بأن تغدو إيران دولة "عتبة نووية" بحيث تدرك نقطة اللاعودة في أنشطتها النووية بعد أن تكون قاب قوسين أو أدنى من إنتاج السلاح النووي، وذلك من خلال السماح لها باستبقاء الآلاف من أجهزة الطرد المركزي التي تستخدم في تخصيب اليورانيوم، إضافة إلى الإبقاء على المنشآت النووية الإيرانية بدون تفكيك.
ومما يعزز مخاوف الإسرائيليين من نوايا إيران النووية المثيرة أن المفاوضات تجري بين طهران والمجتمع الدولي بشأن البرنامج النووي للمرة الأولى منذ أكثر من عشر سنوات، ولم يتم تقويض هذا البرنامج بقدر ما شهد تطورا نوعيا في ما يخص تنامي عدد المنشآت النووية وأجهزة الطرد المركزي ومستوى تخصيب اليورانيوم رغم العقوبات والحصار المفروضين على إيران، حتى أن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أصدرت تقريرا شديد اللهجة في نوفمبر/تشرين الثاني 2011 لم يستبعد وجود أبعاد عسكرية محتملة في برنامج طهران النووي، وأشار إلى وجود منشأة إيرانية سرية بموقع "مريوان" القريب من الحدود الإيرانية العراقية يشتبه بكونها مقرا لإجراء التفجيرات الاختبارية.
وعلاوة على ما ذكر آنفا، يستبد بتل أبيب هلع من أن يفضي احتياج إدارة أوباما لمساندة طهران في الحرب على تنظيم "داعش" وأعوانه إلى استثمار الإيرانيين تلك المساندة في حمل واشنطن على إبداء مزيد من المرونة حيال برنامج إيران النووي إلى الحد الذي يتيح لطهران بلوغ مآربها من المفاوضات، حيث إبرام اتفاق يتيح لها التخلص من أعباء العقوبات التي كبلت اقتصادها ويوفر لها مظلة شرعية دولية لمباشرة أنشطتها النووية السرية توخيا لإنتاج السلاح النووي.
ورغم تضارب التسريبات بشأن مستوى التقدم الذي تحقق في الجولة الحالية من المفاوضات النووية حتى كتابة هذه السطور قبل يوم من انقضاء المهلة المحددة لإدراك اتفاق جديد أعلنت حكومة نتنياهو أنها لن تتوانى في مساعيها المكثفة الرامية إلى تقليص فرص التوصل لأي اتفاق مع إيران ودفع القوى العظمى نحو استبقاء وتشديد العقوبات المفروضة عليها. وفي هذا الإطار، هدد نتنياهو إدارة الرئيس الأميركي أوباما بتجاوز الرهان عليها وحدها بهذا المضمار عبر السير في مسارين متوازيين:
أحدهما سياسي، يتجلى في التنسيق مع الكونغرس الذي أمسى في قبضة الجمهوريين إثر انتخابات التجديد النصفي لمجلسيه، لاستجداء وقوفه ضد أي اتفاق لا يلبي المطالب الإسرائيلية، وهو التوجه الذي حذر منه المعلق في القناة العاشرة بالتلفزيون الإسرائيلي نداف إيال، معتبرا "أن الفوز الذي حققه الجمهوريون يمكن أن يدفع أوباما لعقد صفقة مع الإيرانيين لتمنحه الفرصة لترك أثر تاريخي على صعيد السياسة الخارجية لبلاده بعد أن تهاوت آماله في إحداث تغيير أو تحقيق إنجازات على مستوى الداخل الأميركي عقب فوز الجمهوريين".
أما ثانيهما فكان مسارا إعلاميا تمثل في تكثيف المقابلات مع وسائل الإعلام الرائدة في الولايات المتحدة بغية التأثير في الرأي العام الأميركي وإقناعه بخطورة الاتفاق مع إيران.
وفي مقابلة أجرتها معه إذاعة الجيش الإسرائيلي أكد وزير الاستخبارات الإسرائيلي يوفال شتاينتز أن "إسرائيل مستعدة للتواصل والتنسيق مع العالم بأسره للحيلولة دون التوصل لاتفاق مع إيران لا يراعي المصالح الإسرائيلية".
وفيما تجنبت تل أبيب هذه المرة -وعلى غير العادة- التلويح بالخيار العسكري المتمثل في إمكانية توجيه ضربة عسكرية وقائية إجهاضية للمنشآت النووية الإيرانية -سواء بمساعدة واشنطن أو بمجهود فردي إسرائيلي- لم يشكك يوفال شتاينتز المسؤول عن تنسيق الجهود الإسرائيلية ضد البرنامج النووي الإيراني ووزير الاستخبارات الإسرائيلي بنجاح إسرائيل في تغيير مسار المفاوضات الحالية مثلما نجحت من قبل بالتأثير في مجريات مفاوضات جنيف قبل ستة أشهر حينما تمكنت من تغيير صيغة الاتفاق المؤقت الذي تم التوصل إليه في آخر 24 ساعة قبل توقيع مختلف الأطراف عليه، إذ تسنى للدبلوماسية الإسرائيلية حينها تضمين ذلك الاتفاق المؤقت -في اللحظات الأخيرة- بندا يحرم إيران من الحق في مواصلة تخصيب اليورانيوم بنسبة 20%.
المصدر : الجزيرة
في الإثنين 24 نوفمبر-تشرين الثاني 2014 10:01:08 م