تغريبة منصور الأعرج
مروان الغفوري
مروان الغفوري

في العام 1962، في ليلة مقمرة من ليالي شهر شعبان، قدِم منصور الأعرج إلى قرية الحاج. قبل عشرات السنين كان اسمها قرية الحاج إبراهيم. وقبل مئات السنين كان اسمها مكتملاً "قرية الحاج إبراهيم بن الحاج إبراهيم". وكان الحاج إبراهيم الأب أول رجلٍ بنى منارة لمسجد على قمة جبل. وكان ابنه إبراهيم، قبل مئات السنين، يتسلق المنارة ويؤذن بصوت رائع ومخيف. وذات مرّة في الشتاء صعد إبراهيم الابن ليؤذن لصلاة المغرب وكانت القرية مغمورة بالضباب منذ أيّام فسقط من أعلى المنارة على سطح المسجد، وانكسرت عنقه ومات دون أن يفقد قطرة من الدم. عُثر على جثته بعد أيام ولم تكن قد تعفّنت بفعل الصقيع والسحاب وبركة المصلين وبركة والده الحاج إبراهيم فنال لقب الحاج ولم يكبر بعد ذلك أبداً ولم يحج البيت. لكن روحه في تلك العشية فاضت على القرية وغمرتها فانقشع الغمام منذ صبيحة اليوم التالي، واستطاع السكّان رؤية جبل صبر إلى الشرق البعيد، وتنفس رائحة ميناء المخا والبحر.

وبعد أيام قليلة طلعت نباتات صغيرة ذات لون أصفر على السطح الترابي للمسجد فأطلق عليها اسم "زهور الحاج". وكان لا بد أن تكون صفراء فالحاج إبراهيم الابن كان يستحق كل ذلك التأبين وكان وديعاً ونقياً وحتى بعد وفاته لم يعثروا له قط على حبيبة.

منذ مئات السنين ينتظر سكان قرية الحاج موسم زهور الحاج ولا تأتي إلا في الشتاء. وعندما قدم منصور الأعرج في ليلة مقمرة من ليالي شعبان إلى قرية الحاج كان ذلك في فصل الشتاء. لم تمر سوى أيام قليلة حتى كان منصور الأعرج يؤذن في مسجد القرية بصوت شاحب وجميل يشبه أزيزاً في مغارة. وعندما طرح على إمام المسجد فكرة أن يصعد على المنارة ليؤذن، فالناس لا تسمع الأذان في البَرْد بسهولة، قال له الإمام إنها فكرة مرعبة ومخيفة وأن زهور الحاج تشهد على ذلك. لكن القصة التي سمعها منصور عن وفاة إبراهيم الابن قبل مئات السنين لم تكن مقنعة فهو لا يصدّق أن الإنسان عاش قبل مئات السنين.

في مكان بعيد عن قرية الحاج، تحديداً في السهل، ولد منصور الأعرج. كان اسمُه الكامل: منصور بن قاسم بن عبد الغني الحكيم. وعندما اكتشفوا عرجته، حدث ذلك عندما كان يبلغ من العمر 11 شهراً، قالوا إنه أعرج وربما كان مسخوطاً، فالعرج من الشيطان. وقالت أمّه إنه غنج الأطفال، وأنها لم تنس قط الأدعية المأثورة قبل أن تنام مع زوجها. لم يخالجها الشك قط في أن ابنها سليم. حتى عندما قالت لها امرأة مسنّة وذات حكمة "الأمر لا علاقة له بالأدعية المأثورة فهناك نساء صالحات ولدن أطفالاً مسخوطين" قالت السيدة غزلان ابنة أحمد الحرق إن هذه القصة لا تعنيها فالله قد يتخلى عن الصالحين لكنه لا يخذل المساكين.

تراكمت الشهور على منصور بعد ذلك وبانت عرجته أكثر فأكثر. كانت أمّه تلاطفه في الليل "بحول الله منصور، يا منصور" وكان زوجها ينادي عليها بصوت غليظ من غرفته "نام الأعرج؟". كانت تهدهده قليلاً وسرعان ما ينام، وكانت عيناها تسيّجانه في نومه وتحرسان عرجته. وفي ليلة، عندما كان منصور قد جمَع حوالي 20 شهراً، غطته أمه وسحبت نفسها إلى زوجها. ناداها للمرة الثانية "نام الأعرج؟" ولم يسمع من جواب سوى "شششششش". كان قاسم الحكيم نصف عارٍ، مستلق على ملاءة خشنة على الأرض، ليس تحته من فراش. وكانت أرضية غرفته ترابية ورطبة، ولم يكن منزل الرجل سوى غرفتين ضيقتين وخلاء صغير، وكان سقف المنزل من أخشاب شجرة السدر وسعف النخيل والطين. سحب قاسم الشابة غزلان فتناثرت أمامه كأنها كيس من حبّات الذرة الشامية. وكانت تبلغ 19 عاماً وكان منصور طفلها الأول. وبينما كان قاسم الحكيم ينزع، بفظاظة وعجل، سروالها القماشي عنّابي اللون أمسكت بيده متوسلة إليه بسرّها الذي كان يبحث عنه في الأسفل "أرجوك لا تقُل عن منصور إنه أعرج". منحها قاسم ابتسامة رطبة وهشّة وباردة فظهرت أسنانه السوداء وفاضت من فمّه رائحة دبقة خيّل للشابة غزلان إنها تسببت في هجرة كل طيور قرية حذران. شهقت غزلان مرّة أو مرّتين فوضع قاسم يده على فمها واستمر في الصعود والهبوط عليها كما لو كان يستخرج طيناً من بئرٍ قديمة. أرادت أن تئن، أو تصرخ، لكن قاسم أغلق فمها. كان شعرها ناعماً وطويلاً وكان قاسم يتعمد أن يغطي وجهها بشعرها لكي يخفي ملامح وجهه عن عينيها. لطالما اعتقد قاسم إنه ما إن يغرق بين فخذي غزلان حتى تصبح ملامحه شبيهة بعجل الشيخ. وكان عجل الشيخ هو العجل الوحيد في قرية حذران من يملك الحق الكامل في الصعود على مؤخرات الأبقار الشابة أمام أهل القرية.

ومنذ الأيام الأولى للحياة في حذران، ولا يعرف أحد متى بدأت تلك الأيام على وجه التحديد، يعتقد أهل حذران إن فحولة حيواناتهم تعبّر عن فحولتهم. فإذا سقمت العجول في الخريف تقل المواليد في العام المقبل. مع الزمن تشكّلت أعراف حذران، وفي المركز منها حظر ممارسة البهيمة للسفاح خارج المنزل، فقد أوشك ثور وبقرة أن يجلبا الجنّ إلى البئر. استثني من ذلك مواشي الشيخ. كان الشيخ يجلب الثيران القوية من الأماكن البعيدة، ومن ميناء المخا البعيد وسرعان ما يبدلها لمجرّد أن يلمح وهناً خفيفاً في أدائها. وفي أحيان كثيرة يطل الشيخ من غرفته العالية، في الدور الثالث، ليشاهد عجوله ويستعرضها. لم يكن لديه من شرطة ولا أسلحة، كان فقط يستعرض عجوله، وكان ذلك كافياً لبث السكينة والخوف في قرية حذران، وما جاورها.

من رواية "تغريبة منصور الأعرج"..

 


في الجمعة 27 أكتوبر-تشرين الأول 2017 10:44:32 م

تجد هذا المقال في المركز اليمني للإعلام
http://yemen-media.info
عنوان الرابط لهذا المقال هو:
http://yemen-media.info/articles.php?id=518