|
منذ مطلع التسعينيات تلح عليَّ فكرة المقارنة بين دلالات ومعنى "الثورة"، و"الانقلاب"، وأذكر مرة في ندوة نقاش في اتحاد الأدباء والكتاب في صنعاء 1990، طرحت فكرة أن جذر الثورة اللغوي سلبي؛ لأنه يعني الانفعال السريع والغضب الآني والثأر، بينما جذر الانقلاب عميق؛ لأنه يعني التحول والتغيير الجذري والتبدل في الكون والطبيعة والمجتمع. عارضني حينها بشدة الدكتور عبدالرضا علي، وهو أكاديمي وناقد عراقي وأستاذ في جامعة صنعاء. بقيت الفكرة في الذهن، ولكني لم أعد أطرحها للنقاش؛ لإدراكي مدى الحساسية السياسية إزاء سلبية تسمية الثورة انقلابًا أو العكس. وأتذكر الخلاف حول طبيعة الثورتين المصرية واليمنية، ومدى الخلاف حول تسميتهما ثورة أو انقلاب، بينما الفكرة التي لدي لا علاقة لها بالتوظيف السياسي أو الأيديولوجي للحدثين العظيمين: الثاني والعشرين من يوليو 1952 في مصر، أو السادس والعشرين من سبتمبر 1962، وإنما المقصود منها مناقشة المعنى العميق للفظين – المصطلحين اللذين سادا في الخطاب السياسي والعام كمصطلحين مجردين في رحلة تطور استخدامهما.
صحيح أن الألفاظ تستمد صحتها من التداول وشيوع الاستعمال أكثر مما تستمده من المراجع مهما تكن دقتها؛ فقد اصطلح اللغويون على القول بـ"خطأ مستعمل ولا فصيح مهمل"؛ فما يعطي الألفاظ الصحة هو شيوع الاستعمال، وتسيد اللفظ مع ملاحظة التبدل والتغيير في معاني الألفاظ، وتطور المصطلحات وتعددها، فلا استقرار للألفاظ، ولا جمود في المصطلحات، ولكل علم أو فن مصطلحاته الخاصة والمتطورة أيضًا، وإمكانية التبدل والتحول واردة حتى إنها لتصل إلى قلب المعنى، فالفنان في الأصل اللغوي: حمار الوحش، والسِّيْد: الذئب، والكافر: القرية، والفلاح أيضًا. (يعجب الكفار نباته) [الآية]؛ أي الزُّرّاع.
يعود الفضل للزميل الكاتب الشجاع حسين الوادعي، الذي ناقش قضية مصطلح الثورة، والدلالة السلبية للاستخدام. والوادعي يناقش الأمر في بعده ودلالته السلبية في تجارب الثورات في عالمنا الثالث، وما آلت إليه الأمور. فالشرعية الثورية في هذه البلدان تحولت إلى فساد واستبداد، أزرى بالرجعية والاستعمار؛ بحيث أصبح -للأسف- مصطلح الثورة راعبًا، أما الانقلاب فقد احتفظ بدلالته السلبية، وأنه لا يعني غير قفز مجموعة من الضباط الطائشين الطامحين والطامعين للسلطة والزعامة وغالبًا بدون مشروعية أو كفاءة.
مصطلحات: الانتفاضة، الاحتجاج، الحراك الاجتماعي، المقاومة، الهبة الشعبية، العصيان المدني - كلها تعابير ومصطلحات بدأت تنتشر ويتزايد تداولها في الحياة العامة ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي كمعطى من معطيات الأحداث، بينما مصطلح الانقلاب وهو المصطلح الأهم في دلالته وعمقه اللغوي، قد سُوِّدت صفحته، وساء فهمه ومعناه في التداول السياسي. ومصطلح الثورة المتوهج والسائد منذ الثورة الفرنسية قد تعاظم فعله وتداوله في الحياة بمقدار نجاحه في القارات الخمس، وفي الحياة اليومية في فترة الخمسينيات والستينيات في منطقتنا العربية.
إطلاق الانقلاب على القفز العسكري في بعض البلدان العربية وتعميمه على الحركات العسكرية في بلدان العالم الثالث قد أساء وشوّه هذا المصطلح العميق المعنى والدلالة في التحولات الكبرى، بينما تمت إشاعة ومنح لفظ الثورة، المحدود الدلالة وذا المعنى السلبي، أبعاد التحول الكبير والتغيير الشامل، وقد تكرس المصطلح وجعلت الدلالة على أبرز وأهم ظواهر العصور منذ القرن السابع عشر وحتى اليوم، وعلى مظاهر التغيير الشامل في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية.
للألفاظ حياة ككل الكائنات الحية، فهي تحيا وتموت، وتشقى وتسعد، تزدهر طورًا، وتهمد تارة أخرى. استخدام لفظ الانقلاب في الحركات العسكرية بائس كفضيحة انقلاب عسكر ميانمار، والثورة لم يعد لها توهج القرن الماضي
الزميل الأستاذ حسين الوادعي ناقش ثورة الربيع في البعد الواقعي السياسي والأيديولوجي، وفيما كتبه ما يُتفق ويختلف معه، خصوصًا فيما يتعلق بفشل الربيع العربي. ما يهمني هنا هو قراءة الألفاظ المجردة: الانقلاب، الثورة، الانتفاضة، المظاهرات، الاحتجاج السلمي، العصيان المدني، ولكل لفظة معناها.
يلاحظ أن الثورات الكبرى ارتكزت أو بدأت بالمظاهرات، ولكن الطغاة دائمًا من يرغم الشعوب أو يدفعها للعنف دفاعًا عن النفس، وهناك ثورات كبرى انتصرت بالمقاومة السلمية أو حتى السلبية كالهند، وانتصرت الثورة الإيرانية بالمظاهرات، وساد في فلسطين مصطلح الانتفاضة، والفروق واضحة بين هذه المصطلحات.
في الربيع العربي طغى مصطلح "ثورة" في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وإن كانت أقرب للانتفاضة أو الانقلاب بالعودة للجذر اللغوي الذي يعني التحول الشامل والتغيير النوعي.
في المرحلة الثانية من موجة الربيع العربي، بدأ مصطلح الثورة يتراجع قليلًا، وبدأ حضور مصطلح الانتفاضة يقوى في التداول، وقد يؤدي فشل تجارب الشرعيات الثورية والنماذج الراعبة السائدة في العالم الثالث إلى البحث عن بدائل أكثر صدقًا وواقعية كما أشار الأستاذ الوادعي.
الشيخ عبدالله العلايلي في تقديمه للموسوعة اللغوية "لسان العرب" يرى أن اللغة أعجب مبتكرات الكائن العجيب، وإلا فبأيما أداة كان قد قتل الصمت. واللغة عند العلايلي مؤسسة مرتبطة ارتباطًا مباشرًا بنشاط الإنسان، تتحرك بقانون الغاية. ويرى صاحب كتاب "الكلمات والأشياء" ميشيل فوكو: أنه ليس للغة أي مكان سوى التطور، ولا أي قيمة أخرى إلا فيه.
التداول اليومي والأحداث الكبرى والتطورات هي من يصنع اللغة، ويصطنع الألفاظ والمصطلحات؛ فمئات وآلاف الألفاظ تغيرت معانيها ودلالاتها بعد الإسلام والثورة الصناعية، وتطورات العصر قد خلقت للألفاظ معاني جديدة ومختلفة، كما خلقت مئات وآلاف الألفاظ والمصطلحات غير الموجودة، بل تستطيع قدرة الاستعمال تحويل معنى اللفظ إلى الضد كما تتوارث الألفاظ من لغات أخرى.
المفكر لويس عوض في كتابه الممنوع منذ عام 1981، من التداول وحتى اليوم "فقه اللغة"، وهو موسوعة علمية قيمة يرى "أن اللغة العربية طور متأخر من أطوار السامية. ومن الثابت أن المصرية القديمة أثرت في الساميات وفي غيرها. من الأمثلة التي يذكرها –والكلام له- هناك ترجيح بين دارسي اللغات القديمة لاشتقاق الفعل العربي "أمن" ومشتقاته، وقبله العبري والآرامي من "أمون" الهيروغليفية والهيراطيقية؛ إذ من المؤكد أن "آمين" كاسم فعل بمعنى "استَجِب" في كافة لغات الأرض هو ترديد لـ"آمين" أو "أمون" الهيروغليفية أو الهيراطيقية القبطي. ذلك أن صلوات المصريين القدماء كانت تنتهي بـ"آمين"، وكذلك كل ما يتصل بالأمن والإيمان في العربية والساميات الأخرى كان "أمون"، وبالإحالة في الهيراطيقية "آمين"، علمًا على الله وعلى العقيدة الصحيحة عند قدماء المصريين. ويرى قائلًا: "وهذا يرجّح نحت الأمن والإيمان من أمون". انتهى الاستشهاد بقدر من الاختصار.
للألفاظ حياة ككل الكائنات الحية، فهي تحيا وتموت، وتشقى وتسعد، تزدهر طورًا، وتهمد تارة أخرى. استخدام لفظ الانقلاب في الحركات العسكرية بائس كفضيحة انقلاب عسكر ميانمار، والثورة لم يعد لها توهج القرن الماضي، فاللغة بمقدار ماهي توصيف وتوصيل لأفعال فهي أيضًا خالقة لها. غَرَب الاستعمار، وتوارت حركات التحرر أو بالأحرى تحولت إلى حكم مستبد، والانقلابات لم يعد لها قابلية، أما الثورات فتعيش مرحلة انكفاء.
المصدر / موقع خيوط
في السبت 27 مارس - آذار 2021 06:34:47 م