مارك شاغال البولشيفي الفاشل الّذي برع في استخدام الألوان
الأحد 04 أغسطس-آب 2019 الساعة 04 مساءً / المركز اليمني للإعلام - متابعات
عدد القراءات (5105)

تتميّز أعمال الفنّان الفرنسي  مارك شاغال،   Marc Chagall  (1887-1985) بأبعاد مختلفة تشكّل نسقاً متناغماً من القطع الفنيّة التشكيليّة المُنّوعة الّتي تحكي سيرة التّجديد الفنيّ عنده وتكشف عن كلّ مرحلة من مراحل أعماله منذ العام 1948 حتّى وفاته في العام 1985.

التّجربة الأميركيّة

رحلة جريئة برع شاغال، خلالها، في التّنقيب عن الضّوء وتطوير جميع الأشكال وفق رؤية أكثر حيويّة. هذا ما تنطق به لوحاته ونقوشه الموزّعة على متاحف مختلفة ومقتنيات خاصّة. لعلّها مجموعة من التقنيات المُستكشفة الّتي تدعو أصحاب الذّائقة الفنيّة للعيش في قلب هذه العمليّة الفنيّة الرّائعة. عملية غنيّة بالتّنوع الكبير في استخدام التقنيات وبلورة التّجارب، خصوصاً تلك الّتي عاد بها من الولايات المتحدة في العام 1947: مثل رسم الغسل (وهو عمليّة يتمّ فيها تخفيف الحبر في الماء)، والغواش (هي لوحة مائيّة، المذيب المستخدم فيها هو عادة ماء مخفّف)، إضافة إلى النّقش والرّسم والنّحت بالرّخام والجصّ والبرونز والسيراميك. بشكل أعماله هي عبارة عن مزيد من التّناقضات، النّغمات، الأضواء، الظّلال والألوان الجريئة المُبهِرة.

الفيلسوف الحاقد

في مجموعة الأبيض والأسود الّتي استخدم فيها الحبر الصيني والغواش الأبيض على الورق ثمّة عناوين عديدة تلفت انتباه متذوقي الفنّ التشكيلي: مثل لوحة بعنوان “الطبّاخ”–  Le cuisinier ، وهي من مجموعة حكايات بوكاش رسمها خلال العامين 1949و1950، تمثل شخصاً يحمل سكيناً ويهمّ بذبح طائر كبير فيما يظهر في المقابل طائر صغير بوجه ويد إنسان يحثّه على الهرب، “الشمعدان”- “ Le Chandelier  الّذي وضعه في العام 1956، ولوحة بعنوان “قبيلة نفتالي” -“ La tribu de Nephtali” المستوحاة من قصص الإنجيل، يبدو أنّ شاغال حين كان يرسم بالأبيض والأسود كان يضيف لوناً أو لونين على بعض اللّوحات مثلما فعل مع هذه اللّوحة حين أضاف اللّون الأحمر. من مجموعة حكايات بوكاش” أيضاً: “الرسّام والدّيك”-  Le peintre et le coq  ”  ” (1953)، وقد استخدم فيها القليل من اللّون، “الفيلسوف الحاقد” –  “Le philosophe vindicatif وهي لوحة تُجسّد إمرأة عارية تحني برأسها نحو شخص يقف خلفها تحت أشعة شمس سوداء قاتمة”، استخدم في هذه اللّوحة الحبر الهندي والصيني وهي من مجموعة مقتنياته الخاصّة (1949-1950). ومن الرّسوم غير الملوّنة أيضاً لوحة استخدم فيها الحبر الصيني والورق الياباني بعنوان “زوج باقة الورود”- “ Le couple au bouquet“، هي امرأة شامخة تحمل باقة من الورود لرجل يحلّق أمامه طائر أسود في مدينة تسيطر عليها ألوان الكآبة.

 

العشّاق والوحش

هناك مجموعة قيّمة لشاغال من المنحوتات تمّ عرضها منذ أشهر في متحف “أوتيل دو كومون” في مدين إكس اون بروفانس، مثل منحوتة بعنوان “إثنان عاريان”- “  Deux nus   أو “آدم وحواء” من العام 1953 وهي مشغولة من الرّخام الأبيض تُجسّد صورة رجل وامرأة ملتحمان في وضع عاطفي مؤثر، “العشّاق والوحش”- “ Les Amoureux et la bête” استخدم فيها الجصّ الأبيض(1957)، “حصان رائع”- “ Cheval fantastique” أو “الوحش الرّائع” (1952) وهي تمثّل صورة حيوان شكله بين الحمار والحصان في قلبه رجل وامرأة حامل مستلقيان في حالة يتجسد فيها كلّ منهما بالآخر. يوجد من هذه المنحوتة قطعتان متشابهتان واحدة نُحتت بالجص ضمن إطار معدني وأخرى من البرونز وهي بحجم( 53 × 80 × 29 سنتم)، من مجموعة مارك وإيدا شاغال – أرشيف باريس. إلى جانب ذلك هناك رخاميّة بعنوان “رأسان على يد”-”  Deux têtes à la main  (1964)، وهي منحوتة تُجسّد إمرأة تقبّل رجلاً بينما تظهر يده على خدها.

صخب وتفاصيل

اللّوحات الملوّنة للفنّان الفرنسي تفاجئك بهذا الكمّ الهائل من البذخ في استخدام الألوان، حيث يمكن ملاحظة الصّخب والتّفاصيل الكثيرة، بما يتناقض مع مجموعته الأولى بالأبيض والأسود. ثمّة أشكال غامضة قد تخدم موضوع اللّوحة بما يتطلّب الكثير من الوقت لتفكيك أسرار دلالاتها. من هذه اللّوحات الملوّنة يمكن مشاهدة “القرية الرّائعة”- ”  Le Village fantastique  ” زيتيّة مرسومة على القماش(1968-1971) وفيها شخصيات وحيوانات وأشكال سورياليّة ومتاهة لونيّة مُحيّرة. كذلك “امرأة فوق عصفور”- ”  Femme sur oiseau “(1951)، “الباستيل”- ”  La Bastille” بالزّيت والحبر الملون (1953)، “اللّيل الأخضر”- “ La nuit verte” (1952)، “عشّاق في القطب”- “ Les amoureux au poteau (1951)، “شخصيات الأوبرا”- ”  Personnages de l’Opéra” (1968-1971). وربّما كانت لوحات “دونكيشوت” و”المُهرّج” و”سفر الخروج”، و”عشاق في القطب” و”سان بولس” و”القرية الرّائعة” من أكثر اللّوحات جذباً لانتباه أصحاب الذائقة الفنيّة التشكيليّة.

 

  

 

من روسيا إلى باريس

من المهمّ هنا التذكير بأنّ شاغال ولد في 7 يوليو 1887 حاملاً اسم موسى زاخاروفيتش شاغالوف، في Liozno من ضواحي فيتيبسك، روسيا البيضاء (الّتي كانت تنتمي إلى روسيا القيصرية)، حصل على الجنسيّة الفرنسيّة في العام 1937 وتوفي في 28 مارس 1985 في سانت بول دي فونس، جنوب فرنسا.

نشأ الرّسام والنّحات المخضرم في أسرة مكوّنة من تسعة أطفال، وعمل في نهاية دراسته في مدرسة سانت بطرسبرغ للفنون الجميلة، داخل ورش فنيّة. في العام 1910 درس الفنون في باريس بفضل منحة تعليميّة، وعرضت أعماله لأوّل مرّة في العام 1914. وكان شاهداً على نهاية المدرسة التوحشيّة في الفن Fauvism والّتي ظهرت ما بعد الانطباعيّة في فرنسا العام 1905 وانتهت في العام 1910 ، بينما كانت بدايات نشوء المدرسة التكعيبيّة بمبادرة كلّ من بابلو بيكاسو وجورج براك وآخرين، والّتي تركت أثراً كبيراً في أعماله، رغم أنّه لم يلتزم أبدًا بحركة أو مدرسة معينة.

 

البولشيفي الفاشل

في العام 1914، عاد إلى فيتيبسك لفترة قصيرة، كما اعتقد آنذاك، لكنّ الحرب العالمية الأولى منعته من العودة إلى باريس. خلال هذه الفترة رسم شاغال بشكل خاصّ حياة الجالية اليهوديّة في مسقط رأسه. كما أصبح عضواً نشطاً في الثورة الروسيّة البولشيفيّة في العام 1917. بيد أنّه لم ينجح على المستوى السياسيّ أثناء حكم النّظام السوفياتي، على الرّغم من أنّ وزارة الثّقافة الروسيّة جعلته مفوّضاً لحركة الفنّ في منطقة فيتبيسك والّتي أسّس فيها متحف فيتبيسك للفنّ الحديث ومدرسة للفنون رأسها في العام 1919، إلى أن حلّ محله كازيمير ماليفيتش. قرّر هو وزوجته العودة إلى برلين حيث اكتشف تقنيات النّقش، ثمّ إلى باريس في العام 1922. وفي أثناء هذه الفترة، قام بكتابة عدد من المقالات والأشعار ومذكراته (باللّهجة الييدية) وكانت هذه الأعمال تنشر بشكل أساسي في الصحف (وتمّ نشرها في كتاب بعد وفاته).

رغم أنّه انتقل للعيش في باريس وحصل على الجنسيّة الفرنسيّة، ظلّ شاغال وفيّاً لأصوله الروسيّة، الّتي ظلّت حاضرة في أعماله حتّى حين رسم جسور نهر السين وبرج إيفل، فالعناصر الزخرفيّة الّتي استخدمها في لوحاته هذه كانت مستوحاة من ذكريات طفولته الّتي لم تغادره.

علاوة على ذلك، فإنّ تجربة المساحة التصويريّة كانت ضخمة، خلال أعماله الّتي أنجزها خلال فترة المنفى في الولايات المتحدة. في أواخر ربيع العام 1941، ألقي القبض عليه، وتمّ إنقاذه بمساعدة الصحافي الأميركي فاريان فراي الّذي ساعده باللّجوء إلى الولايات المتحدة. هناك توفيت زوجته، بيلا، في العام 1944. هذا الحدث ترك أثره على طبيعة اختياره للعديد من موضوعات أعماله التالية. عاد إلى فرنسا في العام 1947 واستقرّ في فونس، حيث تزوّج للمرّة الثانية في العام 1952 من  Valentina Brodsky (1905-1993).

 

في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، أصبح اللّون الأسود، مملاً بالنسبة للفنّان، محفزًا للذكريات المظلمة، ولكنّه كان في الوقت عينه عاملاً مُشجعاً للتّحديث بما يتناسب مع طموحات أوروبا في إعادة بناء ما دمرته الحرب. إنطلاقاً من هذا النّهج شهدت أعماله في مطلع الخمسينات نقلة نوعيّه نحو التّجديد. من هنا كانت الألوان نقلة نوعيّة في مسيرته الإبداعيّة.


تعليقات:
    قيامك بالتسجيل وحجز اسم مستعار لك سيمكنكم من التالي:
  • الاحتفاظ بشخصيتكم الاعتبارية أو الحقيقية.
  • منع الآخرين من انتحال شخصيتك في داخل الموقع
  • إمكانية إضافة تعليقات طويلة تصل إلى 1,600 حرف
  • إضافة صورتك الشخصية أو التعبيرية
  • إضافة توقيعك الخاص على جميع مشاركاتك
  • العديد من الخصائص والتفضيلات
للتسجيل وحجز الاسم
إضغط هنا
للدخول إلى حسابك
إضغط هنا
الإخوة / متصفحي موقع المركز اليمني للإعلام نحيطكم علماُ ان
  • اي تعليق يحتوي تجريح او إساءة إلى شخص او يدعو إلى الطائفية لن يتم نشره
  • أي تعليق يتجاوز 800 حرف سوف لن يتم إعتماده
  • يجب أن تكتب تعليقك خلال أقل من 60 دقيقة من الآن، مالم فلن يتم إعتماده.
اضف تعليقك
اسمك (مطلوب)
عنوان التعليق
المدينة
بريدك الإلكتروني
اضف تعليقك (مطلوب) الأحرف المتاحة: 800
التعليقات المنشورة في الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر عن رأي الموقع   
مواضيع مرتبطة
الخطاب التّكفيري في السرديّات الأدبيّة المُعاصرة
أقنعة إسلامي غير مسلم
الهند تدشن "تمثال الوحدة" الأطول في العالم
علمانية الإصلاح الدموية !
لماذا تصرّ الدول الغربية على إنقاذ "الخوذ البيض"؟