الفنّ إذ يحرّك المكبوت
الأحد 06 مايو 2018 الساعة 01 مساءً / المركز اليمني للإعلام عدد القراءات (5078)
ولكن التعبير الفنيّ عن هاتين الطبقتين في عالم السينما لم يقارب الواقع مقاربة مباشرة، وينبغي أن تكون مقاربته كذلك؛ والعجب من عجز نقاد متخصصين عن فهم المحتوى الكامن في بعض الأعمال السينمائية المصرية وتعاليهم -في طريقة نقدهم- على الجمهور. ففي العقد الماضي عرضت السينما المصرية فيلمًا كوميديًا بطله النجم الكوميدي محمد سعد، كان أولّ عمل سينمائي يأخذ فيه سعد دور البطولة المطلقة، والمفارقة أن الفيلم لقي إقبالًا كبيرًا من الجمهور المصريّ، وهجومًا شرسًا من النقاد. هذا الهجوم تلخّصت أسبابه في أن الشخصية المحورية في الفيلم تجسّد شخصية مدمن على الحشيش لا يفيق طوال وقت الفيلم، ويُنطقه الحوار بعبارات مبتذلة لا هدف لها إلا الضحك من دون محتوىً عميق. وكان الأجدر بهؤلاء النقاد أن يروا في إقبال الجماهير مؤشرًا على قدرة الفيلم بشخصية بطله، وبقصته، وبحواره على تلبية حاجة كامنة لدى الجمهور. فالسلعة في التسويق لا تباع ما لم تلبّ حاجة ظاهرة أو كامنة لدى المستهلك، ومن واجبات المسوّق أن يسبر أغوار نفسية المستهلك؛ لإدراك حاجاته الكامنة، وبما أن التسويق لم يعد مقتصرًا على البضائع التجارية، وإنما صار حقلًا يشملها مع غيرها من منتجات، بما فيها الأفكار والمعتقدات، فنستطيع أن نقول: إن الفيلم بتحقيقه هذا الإقبال الجماهيري قد لبّى حاجنة كامنة لدى الجمهور بالتأكيد. فـ “اللمبي” بطل الفيلم الذي يعيش في حيّ شعبي فقير مع والدته، ويكسبان لقمة عيشهما من محلّ صغير لتأجير الدراجات يقرّران الذهاب إلى شرم الشيخ -المنطقة السياحية باهظة التكاليف-؛ لكي يؤجّرا الدراجات للسياح هناك. وعلى الرغم من بساطة الفكرة، فقد التقطت الناقدة الأدبية فريدة النقاش محتوىً لها ذا قدرة تسويقية هائلة. فبما أن المجتمع المصريّ مقسوم بين طبقتين لا تتوسطهما طبقة وسطى؛ بسبب سياسات نظامه، فإن حلم المصري البسيط -الذي غالبًا ما يكون مسكوتًا عنه- هو التطفّل على عوالم الطبقة الأخرى، إما بسبب موضوعيّ كعمل عامل التنظيفات أو بائع الحليب، أو باختراع سبب ما لولوج هذا العالم البعيد على الرغم من قربه الجغرافيّ. وهو ما لامسه “اللمبي” ووالدته عندما تجشّما عناء السفر إلى شرم الشيخ يحملان بضاعتهما مجسّدين حلمًا يراود أغلبية الطبقة المسحوقة التي قد يقضي أفرادها أعمارهم من دون تحقيقه. لا نجانب الصواب إذا قلنا: إن الأحلام البسيطة التي تأبى التحقق، والتي عبر عنها هذا العمل كانت؛ بسبب تطاول القهر والكبت قد مثلت شرارة من شرارت ثورة المصريين، ولا نغالي إذا قلنا: إن الفن قد ساهم في تحريك الرغبة بتحويلها إلى واقع. وفي فيلمه الثاني ” اللي بالي بالك” الذي مارس النقاد نخبويتهم المعهودة على فكرته وحواره وقصته، يؤدي محمد سعد شخصيتين: شخصية الضابط الصارم شديد الحرص على النظام، وشخصية السجين القادم من قاع المجتمع المصري. ويحصل الحدث المفصلي في الفيلم بموت الشخصية الثانية جسديًا وبقاء دماغها، وحصول العكس مع الضابط عقب حادث يتعرضان له، فيُنقل جسد الضابط إلى اللمبي الذي يعيش بعدها بعقله وبجسد الضابط. ولا نحمّل الفكرة فوق طاقتها إذا قلنا: إن فيها إيحاءات إلى ما بات يعرف بفلسفة الجسد، والخلاف حول كونه وحدة واحدة مع الشخصية التي محورها العقل، أم هما وحدتان متمايزتان. ولكن سقف اللمبي المحدود في كلّ شيء بدءًا من اقتصار حلمه قبل أن يرتدي جسد الضابط على سرقة بعض الأوراق التي توثّق ممتلكات موروثة له كان عمه قد اغتصبها منه، وصولًا إلى قناعته بأنه لا يمكن أن يكون غير ما هو عليه؛ بسبب ظروف وجد نفسه محاطًا بها منذ ولادته، وهو ما عبر عنه في جوابه عن سؤال المذيعة التلفزيونية في السجن عن سبب امتهانه مهنة البلطجة، فبرر ذلك بطريقة مضحكة بأن شخصًا مثله، بنوعية أصدقاء مثل أصدقائه لا يُنتظر منه أن يكون طيارًا. ولكن الفيلم إذ ينتصر لثنائية الجسد والشخصية على مدار أحداث الفيلم ينتهي بأن هذه الثنائية لا تفسح مجالًا للإنسان البسيط لكي يتطور في ظل الظروف المفروضة إلا إذا خرج من جسده، وهو فعل مستحيل واقعيًا. وهي دعوة مبطّنة إلى فعل المستحيل لتغيير الأوضاع وتطوير الشخصية. |
|
قيامك بالتسجيل وحجز اسم مستعار لك سيمكنكم من التالي:- الاحتفاظ بشخصيتكم الاعتبارية أو الحقيقية.
- منع الآخرين من انتحال شخصيتك في داخل الموقع
- إمكانية إضافة تعليقات طويلة تصل إلى 1,600 حرف
- إضافة صورتك الشخصية أو التعبيرية
- إضافة توقيعك الخاص على جميع مشاركاتك
- العديد من الخصائص والتفضيلات
إضغط هنا
إضغط هنا