د. هشام أحمد فرارجة: سبعون عاما على النكبةْ أحلك اللحظات وأفضل الفرص
الموضوع: ملفات وتقارير

د. هشام أحمد فرارجة

 تطل الذكرى السبعون لنكبة فلسطين والقضية الفلسطينية تمر في أصعب مراحلها وأحلك لحظاتها على مختلف الصعد الداخلية والاقليمية والدولية. فالانقسام الفلسطيني الرسمي يزداد عمقا وتعقيدا يوما بعد يوم. والذهنية الفلسطينية تعاني حالة من التشتت، ولربما التبعثر، والتي لا تقل حدة وخطورة عن حالة التهجير السكاني الذي عصف بالشعب الفلسطيني عام 1948.

 وكذلك الوضع العربي ليس أفصل حالا. فالتمزق، والاقتتال والانهيارات البنيوية تشكل فقط بعض سمات المرحلة المستعصية. والنظام السياسي العربي الذي كان من قبل هيكلا على الورق في أفضل حالاته لم يعد موجودا.

 والنظام الدولي الذي تشكل رئاسة دونالد ترامب في الولايات المتحدة أحد أقطابه يمر في أكثر المراحل حساسية وخطورة منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. فثنائية القطبية الآخذة في أعادة التشكل بين الولايات المتحدة وروسيا تصعد ألى حالة من التوتر تفوق تلك التي صبغت العلاقات الامريكية السوفييتية في أوج الحرب الباردة.

 ولكن، وكما يقال في علم السياسة، فأن كل شيء سيف ذو حدين. فبمهارة ومهنية وابتكار يمكن تحويل أحلك اللحظات التي تمر بها القضية الفلسطينية ألى أفضل الفرص، خاصة بعد أعلان ترامب بخصوص القدس.

ترامب الخطير وأعلان القدس

لا تكمن خطورة أعلان دونالد ترامب بأن القدس هي عاصمة (أسرائيل) وباستعداده نقل السفارة الامريكية أليها من تل أبيب في كون هذا الاعلان يشكل انتهاكا صارخا للقانون الدولي وأشهارا رسميا لموت العملية السياسية المنبثقة عن أتفاقيات أوسلو والمتآكلة أصلا منذ بداياتها، فقط. وأنما تكمن خطورة هذا الاعلان أيضا في كونه صادرا عن رئيس تتفق الكثير من الآراء للمتخصصين في علم السياسة والنفس بأنه يعاني من مشاكل عقلية جدية، بالاضافة ألى جهله في الشؤون الخارجية والدبلوماسية.

 فمؤخرا صدر كتاب “خطورة حالة ترامب”، مؤلف من سبعة وعشرين متخصصا مرموقا في علم النفس يبين عمق مواطن اختلال شخصية ترامب وعدم اتزانه، ومن ثم عدم قدرته على أجراء حسابات دقيقة عند اتخاذ القرارات، خاصة المصيرية منها. فما يهم ترامب بالدرجة الرئيسية هو شعوره بالنشوة بسبب تميزه عن الآخرين وتكريس صورته كبطل يحقق أنجازات أكثر من غيره وكشخص يفي بالوعود أكثر من كل الرؤساء الذين سبقوه. ليس مهما بالنسبة لترامب ما يمكن أن يترتب على سياساته وقراراته وأعلاناته من نتائج. بل على العكس، يزداد شعور ترامب بتفوقه كلما أثار الانتباه من حوله وشد الأنظار ألى أقواله وأفعاله. فما كان بوسعه أن يرد عندما طرح عليه سؤال بخصوص أمكانية تصويت عدد من الدول في الجمعية العامة لصالح قرار يدين أعلانه بخصوص القدس ألا أن يقول بأنه سيوقف “المساعدات” للدول المصوتة لصالح القرار وأنه (لا يهمنا) كأمريكان.

 ولذلك، وعلى الرغم من المخاطر الحقيقية التي ستنتج عن أعلان ترامب بخصوص القدس، أّلا أن ما يقلق أكثر هو ما الذي سيقوم بعمله بخصوص فلسطين والمنطقة بعد ذلك. فترامب محاط بمجموعة أزمات داخلية قانونية حقيقية نبعت من أحتمال أجراء تنسيق بين حملته الانتخابية وروسيا ضد مرشحة رئاسية أخرى، هيلاري كلينتون، وما يمكن أن يترتب على ذلك، أن ثبت، من تبعات قانونية قد تطيح برئاسته وتودي به وببعض المقربين جدا منه ألى الاعتقال. فرغم كون تركيبة الكونغرس الامريكي مساعدة له لأنه بمعظمه من الحزب چجمهوري الآن، أّلا أن أمكانية عزل ترامب من الرئاسة يجب أخذها على محمل الجد.

 وأذا ما جمعنا هذه الامكانية المقلقة للغاية لترامب والتي تهدد مصيره وطموحاته وأحلامه، مع خصائص شخصيته كشخص مندفع، متهور يتطلع لنشوة اللحظة وليس لمآلات خطواته الاستراتيجية، فأنه علينا عندها أن نفكر مليا فيما يمكن أن يصدر عن ترامب بعد أعلان القدس، بحيث يكون أكثر أثارة وأشد خطورة.

 فمثلا، على الصعيد الداخلي في أمريكا، نجد ترامب قد سارع لأصدار خطته الضريبية وألى كيل وابل من الاتهامات ضد مكتب التحقيقات الفدرالي، كخطوة أستباقية لما قد تفضي أليه التحقيقات الجارية بخصوص أمكانية تورطه وحملته الانتخابية بالتنسيق مع الروس ضد مرشحة الحزب الديمقراطي للرئاسة.

 وأما على الصعيد الخارجي، فهو أمر معروف أن الرؤساء الامريكيين عادة ما يهربون ألى الشؤون الدولية عندما يتعثرون محليا. فهذا ما قام بفعله رتشارد نيكسون عندما برزت معالم وترغيت، وأضيا ما قام بفعله جورج بوش الابن عندما بدت رئاسته متعثرة. فالاول وجه الانظار ألى العلاقات مع الصين والانفتاح على مصر. بينما الثاني قام بتسليط الاضواء على أفغانستان والعراق من خلال حروبه العدوانية.

 وضمن سياق أكثر خطورة بالنسبة لترامب بحكم تركيبة شخصيته وتفاعل خصائص هذه الشخصية من خلال سياساته وقراراته، فأنه في الغالب سيتبع أعلان القدس بخطوات عملية على الصعيد الاقليمي والتي يهدف من ورائها ألى بعثرة الاوراق وضرب بعض اللاعبين لتمكين آخرين من الحلول مكانهم، خاصة في الساحة الفلسطينية، تمهيدا لتحقيق وهمه ب(صفقة القرن.) ليس متوقعا أن يكتفي ترامب هذه المرة بأطلاق الوعود والاعلانات، سواء تعلق ذلك بيهودية (أسرائيل)، أو مصير المستوطنات في الضفة الغربية أو بحق اللاجئين الفلسطينيين بالتعويض والعودة، وأنما المرجح أن يذهب ترامب أبعد من ذلك بكثير، من أجل أشعال المنطقة برمتها ومن ثم تهيئتها لقبول ما يتوهمه بأنه (صفقة القرن.)

 كل ما ذكر لا يعني بأن مخططات ترامب سوف يكتب لها النجاح، رغم كون أحدى خصائص شخصيته الاخرى هي العناد المفرط.

 أن دراية جيدة بدوافع وأدوات وغايات السياسة الامريكية الخارجية يمكن أن تؤدي ألى أبطال مفاعيل أعلانات ترامب التي قد تمت، وكذلك خطواته وسياساته المرتقبة، الموضوع الذي يستوجب التركيز والعناية الفائقة الآن.

 ولكن، ورغم تلك الشخصية النرجسية، العنيدة، المندفعة، والمتطلعة ألى نشوة “الأنا”، بل “الأنا العليا”، أّلا أنه يحق لترامب أن يسجل له بأنه كان الاقدر على الاطاحة بالقناع عن وجه السياسة الامريكية المزيف. ومن أجل فهم أهمية هذه الخطوة التي قام بها ترامب من خلال أعلانه بشأن القدس، فأنه يتوجب تخيل مآلات الامور لو كانت قد فازت منافسة ترامب في انتخابات الرئاسة الامريكية الاخيرة. فلربما تعاظمت عندها أصوات المطبلين والمزمرين والمزغردين لمستقبل العملية السياسية الميتة، وذلك بسبب نعومة سياساتها وعذوبة أعلاناتها ورقة خطواتها.

 فبالنسبة للبعض الذي لم يعِ طيلة ربع قرن من الزمن أن عملية أوسلو السياسية أريد منها الاجهاز على القضية الفلسطينية، لا النهوض بها، ما كان ليزحزحهم عن معتقدهم، لا موت العملية السياسية نفسها، ولا النتائج المدمرة التي أنتجتها، ولا تحليلات أبرع المحللين والمراقبين، كما فعله ترامب بأعلانه بخصوص القدس. فذلك السراب الذي كان يركض وراءه البعض واهمين أن في أمريكا يكمن الحل قد تبدد بالمطلق الآن ولربما بدون رجعة، حتى لو انتخب رئيس أمريكي آخر بسياسات ناعمة في دورة قادمة. والفضل في ذلك يعود لدونالد ترامب بحكم غبائه وسطحية حساباته وقصر نظره السياسي.

 الآن، ما الذي على الشعب الفلسطيني أن يفعله لكي يستثمر هذه الفرصة الذهبية التي منحه أياها ترامب بأطلاقه أعلانا رسميا مزلزلا بفشل نهج كانت الغاية منه تمريغ أنف الشعب الفلسطيني في الوحل لمدة ربع قرن، وبانهائه حقبة بكاملها من الخداع والفشل والتسويف!

 أن الاجابة على مثل هذا التساؤل تتطلب الاستناد الى معطيات وتحليلات سياسية واقتصادية بهدف صياغة استراتيجية فلسطينية محكمة الاهداف، محددة الأدوات والغايات الدقيقة، وآخذة بعين الاعتبار مختلف المتغيرات على كافة الصعد.

 رفض أعلان ترامب لا يعني تقويضه. ليس كافيا، ولا يمكن أن يعد أستراتيجية للمواجهة، بأن يقتصر الموقف الفلسطيني على رفض (صفقة القرن). ففي الحسابات الامريكية، ليس مهما القبول الفلسطيني بهذه الصفقة، وأن كانت رغبات صناع القرار في واشنطن هي أن يتم الحصول على قبلول فلسطيني. فهم يعرفون جيدا بأنه لا يمكن لفلسطيني أن يجهر بقبوله بهذه الصفقة. ولكن، وبهذا الفهم، هم يخططون لترجمة أقوالهم وأعلاناتهم أفعالا على الارض. ولا شك أنهم يستغلون حالة الوهن والانقسام الفلسطينية الرسمية، التي بدت مزمنة بالفعل، من أجل تمرير مخططاتهم وتنفيذ سياساتهم. وبالتأكيد، هم يوقنون أيضا أن تعمق حالة الانقسام بعد انعقاد الدورة الثالثة والعشرين لدورة المجلس الوطني غير الجامع في رامالله مؤخرا سوف يساعدهم، بل وسيسهل مهمتهم في تنفيذ بنود الصفقة واحدا تلو الآخر، رغم المعارضة والرفض الفلسطيني ورغم ما قد يستجد من تحديات غير مرئية الآن.

 أذن، مهما علت صيغة الرفض الفلسطيني لصفقة ترامب، فأنها لا تعني بالضرورة العمل على أبطالها وتقويضها. فالرفض شيء والاجهاض للصفقة شيء آخر. ومؤسف القول أن الولايات المتحدة معتادة على فصول الرفض العربي والفلسطيني عبر مراحل الصراع جميعها.

 ومع الاسف الشديد، سوف نجد السفارة الامريكية تنقل ألى القدس، وسيستتبع ذلك بمجموعة خطوات وسياسات أخرى والتي ستكون أكثر حدة وأشد خطورة على القضية الفلسطينية، ما دامت لا توجد أستراتيجية فعل، لا ردة فعل، من قبل النظام السياسي الفلسطيني.

 

أعلان ترامب بخصوص القدس وضبابية الموقف الفلسطيني

 

 ليس مبالغة أن يتم القول بأن الموقف الفلسطيني الرسمي بعد أعلان ترامب بخصوص القدس مباشرة يتمثل في كونه ينبثق من ردة الفعل، لا الفعل، واجترارا لتجارب لم تنتج أّلا بيئة مناسبة لمثل البيئة التي أطلق فيها ترامب أعلانه. وفي حقيقة الامر، لا يستطيع المراقب ألا أن يلاحظ أمعانا، وأن كان غير مقصود، في أسداء الضبابية والعفوية على أي تحرك فلسطيني رسمي مستقبلي.

 فالتصريحات الفلسطينية الرسمية تمحورت حول أسس خمسة رئيسية للموقف الفلسطيني. أولها يتمثل في التوقف عن أعتبار الولايات المتحدة وسيطا نزيها في العملية السياسية. وثانيها يكمن في أن السلطة الفلسطينية لن تنسحب من العملية السياسية التفاوضية أذا ما تم أستيفاء الأساس الثالث. وهذا العامل الثالث يتجسد في محاولة البحث عن وسيط جديد بين الفلسطينيين والاسرائيليين. رابعا، أن السلطة سوف تتوجه للمحافل الدولية لنيل المزيد من الاعتراف وللمحاكم الدولية لمقاضاة أسرائيل. وأخيراً، فأن السلطة سوف تغض الطرف عن أحتجاجات جماهيرية فلسطينية مضبوطة ما دامت تحت السيطرة من الناحية الأمنية.

 أن مسارعة عدد من المسؤولين الفلسطينيين للتصريح ردا على أعلان ترامب بخصوص القدس أن الولايات المتحدة لم تعد وسيطا نزيها في العملية السياسية المنبثقة عن أوسلو ليسبب الضحك ويثير السخرية ويدعو للبكاء في آن واحد معا. فالمتأمل في مثل هذه التصريحات لا يسعه أّلا أن يستنتج بأن الشعب الفلسطيني قد أضاع طرفا وسيطا كان يتصرف بشكل نزيه منذ أن أعترفت الولايات المتحدة الامريكية بمنظمة التحرير الفلسطينية وبدأت الحوار معها في أواخر الثمانينات من القرن الماضي. وعند سماع مثل هذه التصريحات، يمكن للفلسطيني أن يشعر بالحسرة على فقدان هذا الطرف القوي الذي كان مأمولا به أن يساهم في دفع السياسة الفلسطينية ألى الأمام.

 أن مثل هذه المشاعر النادبة للحظ بسبب فقدان هذا الطرف الامريكي لم تقتصر أّلا على القليلين الذين يمكن أن لا يتجاوز عددهم من أطلقوا مثل هذه التصريحات. فمن بديهيات الامور أن الولايات المتحدة هي الطرف الأقوى والاقدر من أجل تمكين الاحتلال الاسرائيلي من الاستمرار في فرض سطوته وبطشه وجبروته على الشعب الفلسطيني. فهو أمر معروف لدى كافة قطاعات الشعب الفلسطيني أن الاحتلال الاسرائيلي ما كان له أن يدوم ويستمر بشكل أقوى في كل سنة أكثر من السنة التي سبقت، لولا الدعم الامريكي الرسمي وغير الرسمي، عسكريا، اقتصاديا، أعلاميا، دبلوماسيا، سياسيا ومعنويا. أن الافتراض بأن مثل هذه التصريحات سوف تثير مشاعر الجماهير الفلسطينية وتدفع بها ألى تحركات شعبية في الشارع، خاصة في الضفة الغربية، لهو أفتراض خاطئ، حيث أن الجماهير تبني خطواتها اعتمادا على تجاربها السابقة، خاصة ما تعلق منها بكيفية استثمار تحركاتهم واحتجاجاتهم سياسيا.

 وأما التشبث بالعملية السياسية، فما الذي يتم التشبث به؟ جوهر العملية السياسية هو المفاوضات. وهو أمر معروف أن المفاوضات كانت عبثية منذ بدايتها لافتقارها للمقومات والركائز التي يجب أن تبنى عليها أية مفاوضات بين طرفين متصارعين. وما دام من أخذ على عاتقه رعاية العملية السياسية، الولايات المتحدة، لم يعد طرفا وسيطا نزيها، فما الذي تبقى أذن من تلك العملية؟ فهل هو المضمون الذي من أجله يتم البحث عن وسيط آخر ليرعاه؟ فالمضمون قد داسته آلة الاستيطان الاسرائيلية منذ بداية العملية السياسية، وأعادت تفتيته بأعادة انتشار قوات الاحتلال الاسرائيلي في كافة الاراضي الفلسطينية المحتلة، خاصة أثناء أنتفاضة الاقصى. فحتى لو أفترضنا جدلا أن عبقرية الباحث عن وسيط جديد قد نجحت في أيجاد ضالتها، فما هو المضمون الذي سوف يتم التفاوض عليه؟ لا يمكن للمطالب الفلسطينية الرسمية، على ركاكتها، أن تعتبر مضمونا لأية مفاوضات، لانه لا يوجد طرف آخر يتم التفاوض معه بشأنها، أّلا أذا ما كانت المفاوضات رديفا للحوار مع الذات.

 فهل هناك من يتخيل أن هناك طرفا آخر يمكن أن يلعب دور الوسيط في الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، خاصة وأن الولايات المتحدة سوف تكون له دائما بالمرصاد ألى جانب حليفها الاستراتيجي، أسرائيل؟ فتماما كما أن اعتبار الولايات المتحدة طرف وسيط يعتبر دربا من عالم الخيال والوهم، فهو كذلك من عالم الخيال الاجهار بأمكانية العثور أثناء البحث على وسيط جديد يمكن أن يقدم في الامر شيئا.

 أن الاستمرار في اللجوء للمحافل الدولية لنيل المزيد من الاعتراف ولمقاضاة أسرائيل أمر مهم وضروري، وحقيقة يأتي متأخرا. ولكن يجب عدم المبالغة في أهميته الرمزية. ما يهم المواطن الفلسطيني هو ما يعانيه يوميا من بطش الاحتلال ومرارة المنفى. ما يصبو أليه الفلسطيني هو تغير حقيقي على الارض، لم تمنحه أياه كل المحافل والمنابر الدولية حتى الآن.

 ولذلك، فأن توقع أن الزخم الجماهيري سيتعاظم ويستمر قد لا يكون في محله. مرد ذلك ليس عزوفا من الشعب الفلسطيني عن النضال ضد الاحتلال الاسرائيلي، وأنما تعبيرا عن أزمة ثقة حقيقية بما قد يستثمر سياسيا جراء أية تحركات جماهيرية واسعة. ففي الضفة الغربية والقدس، حيث تأثير السلطة الفلسطينية، تتعمق أزمة الثقة يوما بعد يوم. وفي قطاع غزة، حيث تأثير حركة حماس، تتسع رقعة الادراك بأن مسيرات العودة يراد منها امتصاص غضب الشارع الفلسطيني على الحالة المزرية التي وصلت أليها الامور جراء الحصار وانسداد الافق. وفي جميع الأحوال، كل هذا يسبب مزيدا من خيبات الامل ويعمق الاحباط. وهذا يجب أن يذكرنا بالكيفية التي تم التعامل بها سياسيا مع أنتفاضة عام 1987 وأنتفاضة الاقصى العظيمتين.

 فكل محاولات الطمأنة للشعب الفلسطيني والتي تعكسها المعالم الخمسة سالفة الذكر لن تؤتي ثمارها، مع الاسف الشديد. حقيقة، هذه المعالم التي تفرز موقفا ضبابيا تزيد الطين بلة في مثل هذه المرحلة الحرجة والمصيرية جدا، حيث يتوجب عدم أهدار الفرصة الذهبية التي أعطاها أعلان ترامب للشعب الفلسطيني.

 المطلوب هو صياغة أستراتيجية محكمة المعالم، دقيقة الوسائل، واضحة الركائز، وغايتها هي فقط حسم الصراع بأنهاء الاحتلال الاسرائيلي، وليس المطلوب أدارة الصراع والغوص لربع قرن آخر، بحثا عن وسيط جديد، يتم الاكتشاف بعدها بأنه أما غير نزيه أو غير فعال. أن الاتيان بمثل هذه الاستراتيجية ليس أمرا صعبا أو مستحيلا. فطاقات الشعب الفلسطيني رحبة ومبدعة ومتنوعة. وبالتأكيد، فانه لا يمكن حصر الاستراتيجية المراد صياغتها بحوار ضيق حول مجرد حل السلطة الفلسطينية أو الابقاء عليها.

 

أستراتيجية العمل الفلسطيني وضرورات المزاوجة بين السياسة والمقاومة

 

 لقد أتسعت داخل الاوساط الفلسطينية في الآونة الاخيرة رقعة الجدل حول أمكانية، ضرورة وكيفية المزاوجة بين العمل السياسي والمقاومة الفعلية ضد الاحتلال الاسرائيلي. ورغم حدوث هذا الجدل باستمرار، وان بشكل متفاوت في جديته وحدته، أّلا أن أعلان ترامب بخصوص القدس، والذي أسدل الستار على العملية السياسية المتهالكة أصلا، قد فتح الباب على مصراعيه لاحتدام هذا الجدل، ربما أكثر من أي وقت مضى. فأفول العملية السياسية بسبب أعلان ترامب قد ألقى بظلاله على ماهية وأسلوب العمل السياسي كما كان معمولا به في الساحة افلسطينية الرسمية من ناحية، وزاد من حدة الانتقادات لفاعلية هذا العمل السياسي الفلسطيني، على الاقل منذ اللجوء ألى أعتماد أتفاقيات أوسلو أستراتيجية وحيدة ، رةم الاستثناءات أثناء هبة النفق عام 1997 وأثناء أنتفاضة الاقصى، من ناحية أخرى.

 فالمهللون لأوسلو لم يتركوا فرصة لتوجيه سهامهم تجاه من يؤمنون بنهج المقاومة أّلا واغتنموها. بل، وفي أحيان كثيرة، لم يضع المغالون بأيمانهم بأوسلو لحظة للتضييق على المشاركين في المقاومة، أيا كانت أنتماءاتهم العقائدية، الحزبية أو الفصائلية، أّلا واستخدموها.

 غني عن القول أن هذا الولاء المفرط لأتفاقيات أوسلو قد أوجد أنقاساما في النهج داخل المجتمع الفلسطيني وعززه مع الوقت. وهو ليس صحيحا أن هذا الانقسام ذو طابع حزبي فصائلي محض. فعلى عكس النظرة السائدة والتي تمزج خطأً بين السلطة الفلسطينية وحركة فتح، فأن الكثيرين من قيادات، كوادر وعناصر فتح لم يجدوا في أوسلو بارقة أمل للشعب الفلسطيني قط منذ اللحظة الاولى.

 وبأعلان ترامب وما ترتب عليه حتى الآن من نتائج وأنعكاسات، لم يكن بوسع الأوسلويين، تعبيرا عن شعورهم بالانتكاسة وكذلك العزاء للذات، أّلا أن يزجوا في ثنايا الجدل القائم أن كل ما كانوا يقومون به هو المزاوجة بين العمل السياسي والمقاومة، مفسرين البديهي بأن ذلك هو من أبجديات النضال الفلسطيني. فلا يكاد يخلو حديث لهم من عبارة أن المقاومة بدون حصاد سياسي تصبح بدون جدوى.

 صحيح أن العمل المقاوم يحتاج ألى حاضنة سياسية تترجم زخمه ومفاعيله ألى نتائج ملموسة. ولكن الاكثر دقة هو أن العمل المقاوم يحتاج ألى حاضنة سياسية منسجمة في فلسفتها وتطلعاتها مع برنامج من يقاومون. وللدلالة، لم يكن يعوز أنتفاضتي عام 1987 وأنتفاضة الاقصى زخم نضالي وأستعداد للتضحية والعطاء من قبل الشعب الفلسطيني. وأنما الذي كان مفتقرا أليه هو كيفية ترجمة مفاعيل تلك الانتفاضتين العظيمتين ألى نتائج سياسية منسجمة مع قوة العمل المقاوم. فلا أتفاقيات أوسلو عكست جبروت التضحيات والنضال في أنتفاضة عام 1987، لا ولا كان الاستمرار في المفاوضات العبثية بعد أنتفاضة الاقصى ومنح نتنياهو أثمن فرصة ذهبية لتقديم الامن والأمان للاسرائيليين على طبق من فضة. فمجمل التفاعلات السياسية لم تقدم ترجمة مقبولة للنقلة النوعية التي أحدثتها أنتفاضة الاقصى في تغيير ميزان الرعب لصالح الشعب الفلسطيني.

 أن أهم ما أفتقر أليه النظام السياسي الفلسطيني لربع قرن من الزمن هو أعتماده المطلق على المفاوضات كوسيلة وكغاية في آن واحد معا، وليس على مقومات فعلية ملموسة داعمة للعمل السياسي. ولذلك، فأن محاولة تبرير الاستمرار بأسلوب العمل نفسه والمقتصر على عمل سياسي فضفاض بأستخدام مقولة ضرورة المزاوجة بين السياسة والمقاومة لَيُشكّل أمتدادا لعمل لم ينتج أّلا بيئة مناسبة لترامب لكي يتمادى ويطلق أعلانه بخصوص القدس.

 أن أسلوب العمل الفلسطيني يجب أن لا يكون مرهونا بمنظار واحد، حيث أحد أهم أسرار النجاح في العمل السياسي يكمن في أعتماد مجموعة من البدائل المدروسة والمناسبة، مكانا وزمانا وأمكانات وأنسانا.

 أن المزاوجة بين السياسة والمقاومة ليست واحدة من الكماليات، بل هي ضرورة ملحة يقود عدم القيام بها ألى ما لا تحمد عقباه من النتائج. ولكن أيضا ضروري التأكيد في ذات الوقت أن مثل هذه المقولة يجب أن لا تستخدم كأداة تبريرية للقيام بعمل سياسي عبثي، غير محسوب من حيث دينامياته وتوقيته وما يؤتيه من نتائج فعلية ملموسة، لا رمزية معنوية.

 هذه المزاوجة لا يمكن أن تتم أّلا ضمن أستراتيجية محكمة الصياغة، بأساليب ومقومات وأهداف دقيقة ومحددة المعالم، وجديدة، غير تلك التي أعتمدت وجربت حتى الآن.

 

 

د. هشام أحمد فرارجة – استاذ العلوم السياسية في جامعة سانت ماري في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية

*رأي اليوم

المركز اليمني للإعلام - متابعات
الجمعة 11 مايو 2018
أتى هذا الخبر من المركز اليمني للإعلام:
http://yemen-media.info
عنوان الرابط لهذا الخبر هو:
http://yemen-media.info/news_details.php?sid=33437